بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

         منذ نحو من سبعة أعوام، كنت أصدرت الجزء الأول من هذا الكتاب: "مع المعاصرين" ؛ جمعت فيه جملة من الكتابات التي تسنى لي تقديمها في مناسبات احتفائية أقيمت لثلة من الأعلام المغاربة والمشارقة، أصدقاء أعزاء عليَّ وأسماء بارزة مرموقة ؛ في حرص على أن تكون هذه الكلمات جامعة – بتوفيق قدر الإمكان – بين الموضوعية التي يقتضيها التعريف بالعلَم – أي علم – مهما يكن المنهج المتبع في التحرير، وبين الذاتية النابعة مما يتخلل التعريف من مشاعر خاصة وأحاسيس شخصية هي لا شك الحافزة عليه، والدافعة إلى صوغه على نحو متميز.

 

         ولا أخفي أني بهذا النوع من الكتابة، كنت أسعى إلى إيجاد نمط يلتئم فيه ما كان شائعاً عند مؤلفي كتب الفهارس والتراجم والطبقات – وما زال وإن تغيرت أساليب التناول – وما كان معروفاً عند الذين يحبرون المراثي والتقاريظ ؛ مع إعطاء هذا الالتئام قالباً جديداً يضعه في سياق متوازن تطبعه سمة أدبية تقربه إلى المتلقي، وتغري بقراءته للاستفادة والاستمتاع والتأمل.

 

         ولقد كان لصدور الجزء الأول من هذا الكتاب صدى طيب، إذ جاء تعزيزاً للكتابات التي تعنى بالتأريخ للأعلام على العموم، والمعاصرين منهم على الخصوص، ولا سيما عبر إقامة مناسبات تكريمية لهم ؛ مما سيؤدي حتماً إلى تجاوز ظواهـر أليمة متفشية بيننا ومتوارثة، والسعي إلى التغلب عليها ومحو عارها ؛ كظاهرة الإهمال الذي يصيب علماء ومفكرين وأدباء وفنانين، إلى درجة التخلي عمن يعيش منهم آخر عمره يعاني المرض أو الخصاصة. ومثلها ظاهرة التنكر الذي يواجه به أعلام أفذاذ بعد مماتهم، حتى من كان منهم في حياته يعتلي القمة ويحتل مركز القيادة ويحظى بالهيبة. تضاف إليهما ظاهرة النسيان الذي يتعرض له كثيرون، إلى حد يتعذر معه في أحيان غير قليلة، تذكّر أعمالهم وربما أسمائهم، أو تحديد تاريخ وفاتهم، حتى حين لا تكون مضت على هذه الوفاة سوى سنوات قليلة أو شهور معدودة ؛ وربما شُك في كونهم ما زالوا على قيد الحياة أو انتقلوا إلى رحمة الله.

 

         ولعل هذا الصدى الطيب بما خلف من أثر حميد، هو الذي دفعني إلى مواصلة الإصدار، بنشر جزء ثان آمل أن تعقبه إن شاء الله ومد في الأجل، أجزاء أخرى أتابع فيها الكتابة عن "المعاصرين" بالمنهج الذي بينت، في انضباط بمعيار الإنصاف، وإن من خلال رؤية ما أظنها عند من يمارس البحث العلمي – والأدبي كذلك – إلا ملتزمة خط الصواب أو ما هو قريب منه، بما يعتمد من حقائق موثقة مضبوطة، ومعطيات معيشة ملموسة، وذكريات حية حاضرة، مهما تكن ظلال الذاتية ملقاة عليه ومؤثرة فيه بالتأكيد.

 

         وإذا كنت في الجزء الأول قد وزعت الموضوعات على قسمين: خصصت الأول لما يوحي به التقدير والتكريم، والثاني لما يحث عليه الوفاء والعرفان، فإني في الثاني قد حافظت على هذين القسمين، طالما أن الدافع إليهما قائم، وأضفت إليهما قسما ثالثاً جعلته للتنويه والتعقيب. وفيه أوردت بعض ما كتبت متعلقاً بمنشورات مؤلفين أصدقاء، أو بمراجعات علمية وأدبية مع زملاء باحثين.

 

         وسيلاحظ القارئ أن الموضوعات التي يتضمنها هذا السفر – كسابقه – جاءت في كتابتها متدرجة في الأسلوب، من الشكل المتولد عن الخطاب الارتجالي بكل سماته التعبيرية التلقائية، إلى الشكل الفني ذي الملامح التحسينية المعروفة ؛ مما يستجيب في الحالين لطبيعة المناسبة ومقتضى الحال، وإن بغير تكلف أو تصنع في هذا، ولا تساهل مخل في ذاك ؛ وقد يقدم النص في قالب شعري إن كانت لذلك أسباب دافعة.

 

         وإني بنشر هذا الجزء، لآمل أن يكون – كالذي صدر قبله وفي حدود مجاله – رمز اعتراف بالنابهين والمتميزين، وأن يكون كذلك إضافة للمؤلفات التي تهتم بالأعلام وإغناء لها، وإغراء بفتح آفاق جديدة لمزيد من الالتفات إلى المعاصرين والاعتناء بهم وبإنتاجهم، في حياتهم وبعدها، مما هو في صميم ذاكرة الأمة وتاريخها وحاضرها، وما به تستشرف المستقبل وتحض الأجيال، وما به كذلك تحيا وتفاخر، وتقتعد المكان اللائق بها وبأبنائها وما يقدمون لها من جليل الخدمات، وما يبذلون من صادق الجهود، ساعين إلى أن تتبوأ أعلى مراتب الرقي والازدهار.

 

         وبالله التوفيق، ومنه العون والسداد.

 

الرباط في 3 ربيع الأول 1423هـ                                        عباس الجراري

الموافق 16 مايو 2002م